ماذا يديرون للثورة فى الخفاء؟



ماذا يديرون للثورة فى الخفاء؟ 

بقلم فهمي هويدي


إذا كنا قد أدركنا شيئا مما يرتبه فلول النظام السابق فى الداخل، فإن ما يرتبه حلفاؤه فى الخارج لا يزال خفيا عنا. مع ذلك فبين أيدينا دليل يبين لنا كيف فكروا فى الأمر وتحسبوا له قبل أن يقع، الأمر الذى يسلط ضوءه كاشفا على نواياهم بعد الذى وقع.

(1)


أتحدث عن القراءة الإسرائيلية للعلاقة مع مصر، كما رآها آفى ديختر وزير الأمن الداخلى الإسرائيلى فى محاضرته التى ألقاها على الدارسين فى معهد أبحاث الأمن القومى بتل أبيب فى شهر سبتمبر فى عام 2008، وفيها شرح موقف إسرائيل ازاء المتغيرات المحتملة فى العديد من دول المنطقة، ومصر من بينها، وهى المحاضرة المهمة التى أشرت إليها أكثر من مرة من قبل، لكننى وجدت أن قراءتها باتت أكثر من ضرورية بعد ثورة 25 يناير، التى لم تخطر لأحد على بال، لا نحن ولا هم ولا أى طرف آخر فى الكرة الأرضية، ذلك أنهم تصوروا أن التغيير «الدراماتيكى» الذى يمكن أن تشهده مصر لا يخرج عن أحد احتمالات ثلاثة، على حد تعبير السيد ديختر، هذه الاحتمالات تتمثل فى ثلاثة سيناريوهات هى:

1 ـ سيطرة الإخوان المسلمين على السلطة بوسائل غير شرعية، أى خارج صناديق الاقتراع، وهذا السيناريو يفترض أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية تدهورت بشدة فى مصر، الأمر الذى يفقد النظام القائم القدرة على السيطرة على الوضع، ويؤدى إلى انفلات زمام الأمن، بما يمكن أن يؤدى إلى حدوث فوضى واضطرابات، فى ظلها يجد الإخوان فرصتهم لتحقيق هدفهم فى الوصول إلى السلطة.

2 ــ حدوث انقلاب عسكرى، وهو احتمال استبعده المخططون الإسرائيليون فى الأجل المنظور، إذ اعتبروا أن الأوضاع فى مصر قد تسوء إلى درجة خطيرة، مما قد يدفع قيادات عسكرية طموحة إلى السعى لركوب الموجة والاستيلاء على السلطة، لكن لدى إسرائيل العديد من الأسباب الوجيهة التى تجعلها تتعامل مع هذا الاحتمال باعتباره مجرد فرضية، ومن ثم تستبعد وقوعه.

3 ــ أن تتفاقم الأوضاع فى مصر، بحيث يعجز عن إدارة البلاد خليفة مبارك الذى راهن الإسرائيليون على أنه سيكون واحدا من اثنين: إما جمال مبارك أو السيد عمر سليمان، مما يترتب عليه حدوث موجات من الفوضى والاضطرابات فى أنحاء مصر، وهو وضع قد يدفعها إلى محاولة البحث عن خيار أفضل يتمثل فى إجراء انتخابات حرة تحت إشراف دولى تشارك فيه جماعات سياسية وحركات أكثر جذرية من حركة كفاية، لتظهر على السطح خريطة جديدة للتفاعلات الداخلية.

بعد عرضه لهذه السنياريوهات الثلاثة قال السيد ديختر ما نصه: فى كل الأحوال فإن عيوننا وعيون الولايات المتحدة ترصد وتراقب، بل وتتدخل من أجل كبح مثل هذه السيناريوهات، لأنها ستكون كارثية بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة والغرب.

(2)


فى محاضرته ركز وزير الأمن الداخلى على نقطتين أساسيتين هما: إن من مصلحة إسرائيل الحفاظ على الوضع فى مصر بعد رحيل الرئيس مبارك، ومواجهة أية تطورات لا يحمد عقباها، بمعنى حدوث تحولات مناقضة للتقديرات الإسرائيلية، الثانية إنه مهما كانت الظروف فإن انسحاب مصر من اتفاقية السلام وعودتها إلى خط المواجهة مع إسرائيل يعد خطا أحمر، لا يمكن لأية حكومة إسرائيلية أن تسمح بتجاوزه، وهى ستجد نفسها مرغمة على مواجهة هذا الموقف بكل الوسائل.

اعتبر الرجل أن العلاقات بين إسرائيل ونظام الرئيس مبارك «أكثر من طبيعية»، وهو ما سمح للقادة فى تل أبيب ببلورة عدة محددات تجاه مصر تمثلت فيما يلى:

< تعميق وتوطيد العلاقات مع فريق الرئيس المصرى، ومع النخب الأخرى الحاكمة المتمثلة فى قيادات الحزب الوطنى الديمقراطى الحاكم، ومع رجال الأعمال.

< توسيع قاعدة العلاقة مع المنظومة السياسية والاقتصادية والإعلامية من خلال الارتباط بمصالح مشتركة تنعكس بالإيجاب على الجانبين.

< السعى لصوغ علاقة أقوى مع العاملين فى المجال الإعلامى بمصر، نظرا لأهمية دور وسائل الإعلام فى تشكيل الرأى العام وبلورة اتجاهاته.

وهى تنسج علاقاتها فى هذه الاتجاهات فإن السعى الإسرائيلى حرص على إقامة علاقات ويتفق مع أقوى شخصيتين فى مصر ستلعبان دورا رئيسيا فى الإمساك بمقاليد السلطة بعد رحيل الرئيس حسنى مبارك، وهما ابنه جمال واللواء عمر سليمان مدير المخابرات المصرية.

هذا الارتياح إلى التمدد الإسرائيلى فى الساحة المصرية لم يحجب عنها حقيقة القلق الذى يعانى منه المجتمع، وهو ما عبر عنه السيد ديختر بقوله إن النظام فى مصر يعانى من عجز جزئى فى إحكام سيطرته على الوضع بقبضة من حديد، وأن الولايات المتحدة وإسرائيل حريصتان قدر الإمكان على تدعيم الركائز الأساسية، التى يستند إليها النظام، ومن بين تلك الركائز نشر نظام للرقابة والرصد والإنذار، قادر على تحليل الحيثيات التى يجرى جمعها وتقييمها باستمرار ووضعها تحت تصرف القيادات فى كل من واشنطن وتل أبيب والقاهرة.

أضاف صاحبنا فى هذا الصدد أن الولايات المتحدة وإسرائيل وهما تتحركان بشكل حثيث لتأمين النظام القائم فى مصر تحرصان عبر ممثليهما المختلفة فى مصر (السفارات والقنصليات والمراكز الأخرى) على تقديم كل صور العون لحملة انتخاب جمال مبارك رئيسا للجمهورية بعد رحيل أبيه، والهدف من ذلك هو تمكينه من الفوز بتأييد الشارع والرأى العام المصرى، ودعم أنشطته المختلفة الاجتماعية والثقافية لكى يصبح أكثر قبولا من والده.

(3)


وهما تسعيان إلى تأمين النظام القائم، فإن الولايات المتحدة وإسرائيل تبنتا استراتيجية ثابتة فى هذا الصدد، شرحها آفى ديختر على الوجه التالى: منذ دخلت الولايات المتحدة إلى مصر عقب وفاة الرئيس جمال عبدالناصر وتولى السادات زمام الأمور، فإنها أدركت أنه لابد من إقامة مرتكزات ودعائم أمنية واقتصادية وثقافية فى أرجائها على غرار ما فعلته فى تركيا بعد الحرب العالمية الثانية، وانطلقت فى ذلك من اقتناعها بأن من شأن تلك الركائز أن تحجم أية مفاجآت غير سارة تحدث فى مصر. والخطة الأمريكية التى تغطى ذلك الجانب تعتمد على مجموعة من العوامل هى:

< إقامة شراكة مع القوى والفعاليات المؤثرة والمالكة لكل عناصر القوة والنفوذ فى مصر الطبقة الحاكمة وطبقة رجال الأعمال والنخب الإعلامية والسياسية.

< شراكة أمنية مع أقوى جهازين لحماية الأمن الداخلى مباحث أمن الدولة والداخلية والقوات الخاضعة لها وجهاز المخابرات العامة.

< تأهيل محطات استراتيجية داخل المدن الرئيسية مراكز صنع القرار القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية والسويس وبورسعيد.

< الاحتفاظ بقوة تدخل سريع من المارينز فى النقاط الحساسة فى القاهرة، في جاردن سيتى والجيزة والقاهرة (مصر الجديدة) بإمكانها الانتشار خلال بضع ساعات والسيطرة على مراكز عصب الحياة فى القاهرة.

< مرابطة قطع بحرية وطائرات أمريكية فى قواعد داخل مصر وبجوارها فى الغردقة والسويس ورأس ببناس.

وهو يعلق هلى هذه الركائز قال إننا لا نستطيع أن نؤكد أنا حققنا المستوى المنشود، توفير الضمانات التى من شأنها أن تصد أية احتمالات غير مرغوبة بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة. لكننا أنجزنا بعض الخطوات على الأرض، ونحسب أن بوسعها أن تكبح أية تطورات مباغتة أو عاصفة قوية، وفى كل الأحوال فإن إسرائيل قررت أن تعظم وتصعد من وتيرة وجود ونشاط أجهزتنا التى تسهر على أمن الدولة وترصد التطورات التى تحدث فى مصر، الظاهرة منها والباطنة.

إلى جانب عمليات القائمين التى تم اتخاذها، فإن إسرائيل بذلت جهدا من نوع آخر لمساندة نظام الرئيس مبارك، عن طريق دعوة الحلفاء الأمريكيين إلى عدم تقليص حجم الدعم، الذى يقدم إلى مصر لتمكين الرئيس مبارك فى مواجهة الضغوط الاجتماعية والاقتصادية المستفحلة، التى يمكن أن تحدث انفجارات تهز نظامه، وهو يصف الوضع فى مصر ذكر أن أزمتها الاقتصادية والاجتماعية من ذلك النوع غير القابل للحل، وقال إن كل الاصلاحات الاقتصادية التى طبقت فى مصر فى عهد مبارك لم تسهم على الإطلاق فى حل تلك الأزمات حتى المساعدات الأمريكية السنوية (2.5) مليار دولار لم تعالج الخلل فى الهيكل الاقتصادى والاجتماعى المصرى لأن هناك خللا بنيويا فى الاقتصاد المصرى يصعب معالجته بمساعدات هى مجرد مسكنات تخفف من الآلام بشكل مؤقت ثم تعود الأزمة لتستفحل وتتفاقم، وكانت نتيجة ذلك أن الأوضاع عادت مصر إلى ما كانت عليه قبل عام 1952، الأمر الذى أدى إلى حدوث الانقلاب، الذى قام به ضباط الجيش فى ذلك العام، وهو ما أثار مخاوف نظام مبارك، وكذلك مخاوف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى. وهى التى يمكن أن تبدى أى تغيير غير مرغوب فيه، وإذا ما حدث ذلك فإن تداعياته لن تكون مقصورة على مصر، ولكن آثارها ستنعكس على عموم المنطقة.

(4)


هل هناك تهديد حقيقى يمكن أن يؤدى إلى تغيير النظام فى مصر، وإذا كان الرد بالإيجاب فماذا أعدت إسرائيل لذلك الاحتمال؟ ــ ذكر آفى ديختر أن هذا السؤال يتردد باستمرار داخل مراكز الدراسات الاستراتيجية فى إسرائيل، وفى رده عليه قال ما يلى: إن النظام فى مصر أثبت كفاءة وقدرة على احتواء الأزمات، كما أثبت قدرة على التكيف مع الأوضاع المتأزمة. مع ذلك فهناك تهديد ناجم عن تشابك وتعقيد المشاكل والأزمات الداخلية الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية، الآن الحزب الديمقراطى، الذى يرأسه مبارك يهيمن على الحياة السياسية.

فيما خص الشق الخاص بأسلوب مواجهة إسرائيل لأية تغييرات أو تحولات جادة تحدث فى مصر، فإن الوزير الإسرائيلى الأسبق أكد أن الدولة العبرية على تنسيق مع الولايات المتحدة فى كل ما يتعلق بهذه المسألة، وفى الوقت ذاته فإنها على استعداد لمواجهة أى طارئ بما فى ذلك العودة إلى شبه جزيرة سيناء إذا استشعرنا أن تلك التحولات خطيرة، وانها ستحدث انقلابا فى السياسة المصرية تجاه إسرائيل وأضاف اننا عندما انسحبنا من سيناء فإننا ضمنا أن تبقى رهينة. وهذا الارتهان تكفله ضمانات أمريكية من بينها السماح لإسرائيل بالعودة إلى سيناء إذا اقتضى الأمر ذلك، كذلك يكفله وجود قوات أمريكية مرابطة فى سيناء تمتلك حرية الحركة والقدرة على المراقبة، بل ومواجهة أسوأ المواقف، وعدم الانسحاب تحت أى ظرف من الظروف.

فى هذا السياق ذكر الرجل أن إسرائيل تعلمت دروسا لا تنسى من حرب عام1967، لذلك فإن سيناء أصبحت مجردة من السلاح ومحظور على الجيش المصرى الانتشار فيها، وتلك هى الضمانة الأقوى لاحتواء أى تهديد افتراضى من جانب مصر، وهو يعزز رأيه فإن إسرائيل لن تتخلى تحت أى ظرف عن تمسكها بتجريد سيناء من السلاح، مضيفا أن مصر حين طلبت ادخال 600 من أفراد الشرطة، حرس الحدود والأمن المركزى للتمركز على حدود قطاع غزة، فإن الطلب درس دراسة مستضيفة من جانب الطاقم الأمنى ومرت الموافقة عليه بمخاض عسير داخل الحكومة.

وهو يختتم محاضرته قال آفى دختر إن القاعدة الحاكمة لموقف الدول العبرية هى أن مصر خرجت من ساحة مواجهة إسرائيل ولن تعود إليها مرة أخرى، وهى قاعدة تحظى بالدعم القوى والعملى من جانب الولايات المتحدة.

هذا الاستعراض يثير أسئلة عدة حول طبيعة الأصداء، التى أحدثتها ثورة 25 يناير داخل إسرائيل، وحول مصير التجهيزات والركائز التى أعدتها بالتعاون مع الولايات المتحدة داخل مصر لمواجهة احتمالات التغيير «الدراماتيكى» خصوصا حين وقع من حيث لا يحتسبون، وحين جاء بمن لا يتمنون، أننا لا نعرف شيئا عما يجرى تحت السطح أو يدور وراء الكواليس، لكننا ينبغى ألا نتصور أنهم يقفون صامتين وغير مبالين، ولذلك من حقنا أن نسأل عن حقيقة الدور الذى يقومون به فى الوقت الراهن تحت الطاولة وبعيدا عن الأعين




؛؛







تعليقات