السقوط في هاوية الخلود

على خلفية هاوية خالدة بواسطة أحمد الحقيل..
أخبرني لمَ شعرت أن هذه القصة نوع من الحديث عن الحب ؟! لست أقصد أن السينما تتحدث عن كل شيء و أكثر تلك الأشياء الحب, بالأصل أنا لا أعتقد هذا. أعتقد أن أكثر حديث تناولته السينما في تاريخها هو الموت. إن قمت بتأويل كل موضوع آخر إلى وسيلة تؤدي إلى المعنى الأعظم الذي يعنون كل السيناريوهات..الموت. مثلاً تناول قضية الاغتصاب بكثرة يفضي بالضرورة إلى موت أحد إما مادياً أو معنوياً من خلال انهيار أركان حياته وهو حي. قضية الجنس لاختبار مدى جدية الصديق في قبول علاقة مع فتاة يجب عدم العبث بها لمجرد استسلامها لسخافة الشعور العدمي المسمى ” حب ” هي بالضرورة أيضاً تؤدي في كل قصة إلى موت. إما لماضٍ فاشل أو للحظة حاضرة كانت خدعة بصرية ظنّها الطرف المجني عليه نجمة أنعِم عليه بها من السماء.
أعرف أعرف أن كل هذا هراء لا يُفهم منه أي تعليق هذا على قصة سينمائي كانت السينما برواز حياته التي يعرف أن الجدار لا مسمار فيه إن خرج منه و فكر في الركض إلى ألبوم صور مثلا..أو كاميرا فورية. لديه هذه الأشياء جميعها إنما في بيته المؤطر..في البرواز. لا يذهب إلي الأشياء في الخارج..يستدعيها إليه , وإن اضطر إلى الخروج لوضع المصائد أمامها فهو يضع المصيدة و يعرف جيداً أن العنصر المراد سيأتيه..فإن لم يأتِ..يسرقه من متعته في المخيّلة.
طوال قراءتي للقصة و صورة جويدو كونتيني تستعرض أمامي !
كان يحفر إما قبراً لفيلمه أو مكاناً يزرعه فيه كشجرة رأس سنة تنبت جاهزة بهدايا معلقة في أطرافها للبالغين و الأطفال !
عزام الذي انقلب على نفسه عندما لم يشعر أنه مخرج سينمائي عظيم بل شعر بالسأم, ذكرني أيضاً ب” دينو” الرسام السائم في رواية مورافيا. تجنبت مشاهدة الفيلم. عادةً عندما أحب رواية حباً يجعلني أعتبرها من أملاكي الخاصة التي لم أستطِع صنعها بنفسي لأستحق تملّكها..لا أشاهد من يقوم بتدويرها إلى أي شيء..و إن كان التجديد أفضل منها. إن حجتي في هذا الامتناع هي الإخلاص لروح الكاتب التي بثها في الرواية. لايعنِ ذلك أنني لم أشاهد أفلاماً جسّدت من روايات. من أفضل الأفلام التي شاهدتها نجحَت في نقل رواية إلى سينما ” اسم الوردة/ امبرتو ايكو , بقايا اليوم/ كازو ايشيجورو , صورة دوريان غراي/ أوسكار وايلد , آنا كارنينا / ليو تولستوي..نسخة 1997 تحديداً ، المريض الإنجليزي/ مايكل أونداتجي , اوليفر تويست / تشارلز ديكنز ” بينما لست أتخيل جرأة من قاموا بتحويل رواية البؤساء, الجريمة و العقاب ,الحرب و السلام , والحب في زمن الكوليرا ! يأبى حبي لهذه الخوالد أن يشاهد فيلماً فيه احتمال ضئيل بالمائة أنه قام بتشويهها. حسناً لقد رافقتُ تسرب تركيزي إلى درب آخر مثلما فعل عزام أكثر من مرة لشدة قلقه من فكرة فيلمه الذي يريده جامعاً لكل شيء ولا يشبه أي شيء ، أشياء أساتذته السينمائيين العظماء الأموات منهم و الأحياء !
عزام في سأمه يمنح تعريفاً آخر للسأم لم يذكره مورافيا في روايته. السأم المدفوع عن كون صاحبهِ حقيراً ! في بعض فقرات القصة شعرت أن سأم عزام ليس سأماً.. إنه اختلاجات ندم خاطفة لايسمح للإضاءة باقتناصها ولا للباب الذي يفتح بطريقة مسرحية في أفلام الدراما أن يقفل دونها و يحتجزها لثانيتين مثلاً..بدلاً من ثانية واحدة أو نصف ثانية.. أو عشر ثوانٍ ( يا للطول) متقطعة على مواقف كلها يفعل فيها عزام خطايا لا يغفرها له سوى مسرح العرض ؛ هناك حيث يمكنك ادعاء أن أي بشاعة تقوم بها ماهي سوى مشهد من الفيلم. صدّق من صدق و اشمئز من اشمئز.
هل مرت عليك من قبل أقوال مكررة لأدباء يكتبون قصصاً عاطفية يقولون أن من الجميل لمرء أن يموت على الوضعية التي عاش عليها ؟ أي أن بإمكانك مثلاً الموت وأنت تلعب ” مصاقيل” في سن الثمانين صدفة..كما كنت تلعبها في سن الثمانية. رجال دين قالوا الشيء نفسه لكن بالطريقة العنيفة المعهودة ” خاتمتك تضع عنوان ما كنت تفعله في حياتك..فعندما تموت متفحماً في حريق يعني أنك كنت في حياتك تملأ البيت بكاسيتات الأغاني أو تعلق في الحائط صور فنانات أجنبيات” و قس على ذلك. أنت لم تستحضر هذه المعلومة الحقيقية عن الموت عندما كتبت نهاية عزام. أعلم هذا لكن الأمر جاء بديهياً تحت تأثير بداهتك مهما كانت سينمائية خلاقة !
” يقف عزام في غرفة مفرغة، العدم يحيط بكل جهاتها، تغلفها خلفية سوداء يصطدم البصر بها، تخترقها بقعة ضوء مركزة على المكان الذي يحيط بعزام .. يسير ويتحدث لشيء لا يدرك كنهه:
- عرفت في مراهقتي فتى ضعيفا منبوذا، ينظر له الجميع كوباء ثقيل .. ذات يوم قرر القيام بمحاولة أخيرة، أمسك بندقيته وأطلق النار على ساقه فحمل إلى المستشفى وبترت ساقه، وحينما خرج أصبح الكل ينظر إليه بشكل مختلف، لم يعد ثقيلا بقدر ما أصبح مثيرا للشفقة “
أنا أعرف الآن أن عزام ذي روح مأخوذة بشيء من كافكا. (لم أكن قد وصلت في القراءة إلى السطر الذي قال فيه عزام أن الفن طريقة مؤلمة كما قال كافكا) ليس هناك حيث الكابوسية و التشاؤمية..بل حيث اللامبالاة بالطبيعة..و الاهتمام كل الاهتمام بأقصى حد يستطيعه أو لا يستطيعه بالظلام باعتباره تعبير عن القلق الذي يكتنف النفس فيثقل عليها كالجاثوم بينما هذه الحلكة كان بإمكانها أن تكون وجهاً آخر لجمال مشروع إن تذكر أنها ملامح ليل مثلاً .حتى أن انجمار بيرغمان نجح عليهما في اقتناص وجوه كثيرة للحلكة غير المتطرفة التي اتخذاها..و بيرغمان بطل لا يبارى في التطرف برغم ذلك. إذن ليس الأمر أن تتعقل.. التعقل يفسد أي نكهة محتملة في أي سينما لمخرج مبتدئ. الأمر أن تكون سينمائياً في تطرفك أيضاً !
عندما قال عزام عن اعتقاده بمَ الفن ؟ هو أنه يبالي بموقعه في الوجود كرجل يعيد خلق الأشياء ، ضحكت وعيني ترتفع فجأة بلا مبرر للمرآة المعلقة بجواري و تخيلت تعريف امرأة للفن. لم يحتفِ التاريخ لا سينمائياً ولا أدبياً بنساء رأين الأشياء المتخذة أساليب حياة و معاش رؤيةً عظيمة في التطرف و الإدهاش. تبدو المرأة دوماً العنصر الذي يحاول الرجل تجميله ليقال أبداع ” المخرج” في صنع هذا الجمال المتمثل أمامنا على شكل امرأة ! ليف أولمان , صوفيا لورين, بريجيت باردو , سوزن جورج و مارلين مونرو مثلاً..حتى أولئك النساء اللاتي لعبن أدواراً لنساء مفكرات و عالمات و مبدعات في أعمال فيزيائية. كراشيل وايز مثلاً التي لعبت دور هيباتيا.. عالمة الرياضيات والفلسفة .
حسناً .. أنا بعد كل هذا التداعي لم أتحدث عن قصة عزام التي يفترض أن نتأثر بها, أو نشفق عليه.. لكنني على عكس ذلك منحته نظرةً خالية من التعبير , لأنه لم يكن يبحث أو يبالي بشيء ولا الإعجاب حتى. كان يبحث عما يشبع جوعه الذي اختار شكله تعبيراً عن الشهوة. أقصد الشكل الفني.. تخيلت لو غيرت شيئاً في شخصية عزام فجعلته فاقداً للذاكرة. هذا كان سينهِ القصة من بدايتها.. لأن فاقدي الذاكرة لا تعوزهم القصص.. إنَّ أفضل شيء يفعلونه هو تأليفها من خلال الصور الحديثة التي يرونها أمامهم محاولين ربطها بما قيل لهم أنه ماضيهم و تفاصيل هويتهم و هوية مفضَّلاتهم من البشر و المكعبات. الزهايمريين الذين عرفتهم أثناء عملي في العزل كانوا أفضل خالقي سيناريو و أجوَد مخرجين رأيتهم في حياتي.. لكنهم يجهلون عبقريتهم.. تماماً مثلما يجهل كاتب قصة السقوط في هاوية الخلود عبقريته وهو يعيد سيناريوهات الأفلام اللامتناهية التي شاهدها وتكدست في ذاكرته أو ربما تحولَت إلى خليط “أخاذ ” لكنه غير مفهوم..إلى قصص مفهومة يمكن لمخرج سينمائي عظيم ” ليس عزام ..أحد آخر ينبغِ له الحصول على فرصة ! ” تحويل كل واحدة منها إلى فيلم غير مرتبط بأصله الأول . الهاوية كلها فكرة مبتكرة لفيلم لا أعرف أنه قد صنع بعد. فعندما تقع في الهاوية و تبقى دون إنقاذ.. أنت تأخذ صفة الخلود السحيق بشكل أو بآخر.. فهمته أم لم تفهمه. يظل خلوداً ينتظر مُخرجاً متهوراً يلتقطه دون أن يبدأ بفكرة خيِّرة ساذجة : إنقاذ البطل.

تعليقات