الصمت والصخب





1

يقف مسعود بجمود وسط المقبرة، أمام القبر المفتوح استعدادا لاستقبال فريسته .. يحيط به ثلة قليلة من الناس، المُغسّل ومؤذن المسجد وإمامه وعدد من المشيعين، لا أحد يعرف صديقه، مات بعيدا عن وطنه، ويدفن بعيدا عن وطنه .. فكر بالموت وهو يضعه في القبر، إما أنه وقح لا يعبأ بالشكليات التي تحفظ كرامة ومشاعر الآخرين، أو أنه دقيق في مواعيده لدرجة الوقاحة .


قبل وفاته بيومين، دخل مسعود غرفة العناية المركزة في مستشفى الشميسي، يتموضع سرير مصطفى بين عشرات الأسرة، تفصلها قواطع صغيرة من القماش الرقيق .. كان مستلقيا بوجه لا يمت بصلة لوجهه، ساهمُ النظرات تحت ظل اللمبة الخادر فوق رأسه .. سيموت حتما، وسيعود بموته شبح الصمت الثقيل .. شعر بشيء من الجزع المتيبس، جلس على كرسي بجانب السرير، أخذ يحدق بوجوم في صاحبه الذي تتوه نظراته في عمق الفراغ .. فكر قليلا، ثم قال:


- لقد قتلت شخصا ما .


حرك مصطفى عينه بصعوبة، لم تكن قسمات وجهه قادرة على افتعال ردة فعل واضحة، ولذا ظل يحدق بهلامية في وجه صاحبه .. فأكمل:


- لقد كان ثأرا، لم أكن أريد أن أقتله، ولكنهم ظلوا يرددون أنني يجب أن افعل، ففعلت، ثم هربت .. سرقت مالا لوالدي وهربت .. كان يفترض أن أكون شيئا مهما، كنت سأجيء إلى هنا للدراسة، ثم العمل، ثم الكتابة والزواج .. ولكنني الآن لا أستطيع عمل شيء ما، ولا شيء .. أنا لست أعيش بالفعل، كل ما هنالك أنني حي، أتنفس .


ثم صمت وهو يشعر باحتقان في وجهه، برغبة ملحة في الانهيار .. تطلع في صاحبه فلم يرى ما يشير إلى أي ردة فعل، بل أنه حرك عينه ليعود للتحديق في الفراغ .


خرج من قبره وساعد في ردمه وشكر الحاضرين، ثم ذهب ليجلس على صخرة في طرف المقبرة، يتأمل شواهد القبور الناتئة .. أخذ يفكر في مصيرها، ماذا سيحدث لها بعد مئة عام ؟! ستنطمس حتما، ستُبنى فوقها البيوت، وستُعبّد عليها الطرق، وستزرع في أعماقها الأشجار .. وبعد مئة سنة أخرى ربما تتحول إلى مقبرة جديدة .


ولأول مرة منذ 5 سنوات، عاد طنين الصمت ليجثم في أذن مسعود .






2


التقيا قبل 6 سنوات .


كان مصطفى يسكن في عمارة قد استحوذت على أغلب شققها الجالية المصرية وسط البطحاء، تفوح منها روائح الطبيخ الحاد .. يعمل مصمما في مكتب للدعاية والإعلان، اشترى سيارة متهالكة يعاملها كالجسد المريض، يحاول أن لا يستثيرها، أن لا يفاجئها أثناء القيادة، فكانت ترد الجميل بتأخير احتضارها .


طوال شهرين من انتقاله إلى البطحاء، كان يصادف في طريقه إلى المكتب رجلا يسير على قدميه، متجها إلى عمله كبنّاء في عمارة مجاورة لمكتبه، يقطع 10 كيلو مترات يوميا، لا يلتفت، ولا يختلج، ولا يتغير رسم جسده الأوتوماتيكي، يبدو كنائم يُـقاد بحبل مربوط يجرّه بخفة .. لم يكن أحد يعرف مسعود بالضبط، من عملوا معه ومن سكنوا بجانبه، من أين أتى ومن يكون، لهجته المختلطة بين الجنوبية والحجازية والنجدية تفرض غموضا حول أصله، وسحنته السمراء الكالحة تشير إلى أنه عاش تحت الشمس طويلا، حتى ختمته بانعكاسها المحترق .


مر مصطفى بجانبه صباح يوم شتائي قارص، يمشي منكمشا في جاكيتة صغيرة لا تغطي كل ظهره .. أوقفه على قارعة الطريق وفتح النافذة المتصلبة بصعوبة، ثم قال بابتسامته المثبتة على فمه دائما:


- تحتاج إلى توصيلة ؟!


انحنى مسعود ليقابل نظرات الغريب، ابتسم ابتسامة لطيفة تنفض كدر طلته الكالحة:


- لا أعلم إن كان طريقي يقع في طريقك .


فهز مصطفى رأسه بخفة:


- طريقنا واحد يا زميل .


ركب مسعود بتردد، انغمس بارتياح في مرتبة السيارة، لازال يتدثر بجاكيتته بكل قوته، وكأنه يحاول أن يعصر البرد الذي يستقر في أحشائه .. بادره مصطفى بالتعريف بنفسه مندفعا كعادته:


- معاك مصطفى رفاعي .. من الاسكندرية، مواليد 1984، أعزب، ليس لي إخوة، توفي والداي قبل 4 سنوات، أحببت فتاة لم تبادلني الحب .. طولي 1.80 وزني 74، أعمل مصمما فنيا .. وطبعا الجنس ذكر .


ثم أخذ يضحك وهو يترقب رد صاحبه .. حدق مسعود فيه باستغراب ساخر، ماذا يقول بحق الجحيم ؟! .. ثم قال مقتضبا:


- مسعود ..


انتظر مصطفى عدة لحظات وهو يراوح النظر بينه وبين الطريق، ينتظر إضافة لتلك الكلمة اليتمية، ولكن لاشيء، بدى مسعود ساهما في تأمل الشارع أمامه، وكأنه عاد إلى حالته المنومة .. فقال:


- ماشي .. من أين أنت ؟!


فكر قليلا ثم قال:


- من أراض بعيدة .


- من أين ؟!


- من أكثر من مكان .


التفت بحذر ساخر:


- أنت مجرم أو شيء من هذا القبيل ؟!


فابتسم مسعود باستغراب:


- ليه بس ؟!


- لماذا إذا لا تريد أن تخبرني من أين أنت ؟!


- لأنني من أماكن مختلفة، أستطيع القول أنني من جازان، ومكة، والباحة، وسدير .. وسأكون صادقا في كلها .. لذا: من أين ؟! غير قابلة للإجابة المقتضبة .


صمت لحظة وهو يفكر باستنكار في إجابته المركبة الغريبة، أي بنّاء لعين هذا ؟! .. ثم قال:


- كثير الترحال إذا ؟!


- كلنا عبيد اللقمة .


هز مصطفى رأسه بأوتوماتيكيته المعتادة، ثم ضرب الدركسون فجأة بيده تمهيدا لإعلان مهم، وقال مبتسما باندفاع:


- مسعود: ما رأيك في القوارب ؟!


هكذا كان الرجل .. ينجرف وراء نزعته اللحظية، يطرح أسئلة لا تمتُّ بصلة للموقف، حينما تسير بجانبه في السوق يختفي فجأة دون مقدمات، ثم تجده واقفا عند رفوف المجلات أو الخضار أو المعلبات يحدق بفضول .. أو حينما تقفان أمام بعضكما وتتحدثان في نقاش محتدم، لتجده يلتفت فجأة ثم يمضي إما إلى السيارة أو الشقة أو أي مكان لعين آخر، وكأنك غير موجود .


طوال الأسابيع المقبلة كان مصطفى يتولى دفة الحديث، يتحدث عن هوسه بالقوارب حينما كان يسكن قريبا من شاطئ الإسكندرية، أحلامه الرومانتيكية حول البحر المتلاطم والقوارب التي تسبح عكس تيار الطبيعة، كيف تُصنع، وكيف تشترى وكيف تباع وكيف تقاد، كل شيء يتعلق بها .. أو في الحديث عن نفسه، عن كل ما يمت له بصلة، كيف توفي والداه قبل 4 سنوات حينما كان في الجامعة، وكيف أن هجرته هنا كانت أمرا غير متوقع، وكيف أنه أحب فتاة تدعى سعاد لم تبادله الحب، وكيف أنه يريد العودة إلى شاطئ الإسكندرية ذات يوم، وكيف وكيف وكيف .. لم يكن في حديثه شيء من الثرثرة المزعجة، كان لطيفا، صادقا، ينصت مسعود إليه بانتباه خامل، بينما يستغرق هو في وصف ما يصف باندفاعه الشاعري .


أما مسعود فلم يكن يتحدث .. حينما يصرخ فيه مصطفى مطالبا بشيء ما، أي شي يدل على أنه كائن حي، يجيب ببرود متجمد:


- ليس لدي شيء لأتحدث عنه .


لم يعرف مصطفى شيئا عنه يستحق المعرفة، بل أنه كان يشك في أن اسمه مسعود .. تركيبته بأكملها كانت تثير الريبة، هوسه بالقراءة التي يتناقض مع طبيعة عمله كبناء فقير، انطوائيته المتشككة التي تعزل ماضيه عن حاضره، جموده الخامل الذي تشتته أحيانا ابتسامة لطيفة نادرة، كل شيء فيه يبدو غريبا .. ولكن لأن مصطفى كان منغمسا في أوهامه الذاتية وخيالات صحوته؛ لم يبالي كثيرا .. وبعد عدة أشهر انتقل مسعود إلى شقته للعيش معا، كان يسكن معه في السابق رفيق من الديار يدعى مناور، سافر إلى مصر بعد أن باع والده أرضا في الصعيد بـ600 ألف جنيه .


لم يكشف عيشهما معا شيئا جديدا .. بدا الاثنان لبعضهما كما كانا في رحلات الصباح إلى العمل، عدى موضعين اثنين: الأول حينما يصاب مصطفى بحالة من الاكتئاب الحاد، يفقد الرغبة في العمل، ويتحول اندفاعه في الحديث إلى اجترار ممل عن موقفه الهش .. كان يقول لصاحبه بدراميته المعتادة:


- لمن أعمل ؟! لا يوجد أحد ينتظرني هناك، فلمن أعمل ؟!


فيقول مسعود بلهجة متأنية:


- إنك تعمل لتجد أحدا هناك .. زوجة وأبناء سيعيشون في خير ما جنيت .


فيلوّح يده بعصبية:


- هراء، أنا لست غبيا .. لا يوجد أحد، ولن يوجد أحد، لأنني سأعمل كالكلب طوال حياتي، ولن أجد أحدا .


ثم يوجه سؤاله لمسعود بشيء من الحدة، وكأنه يتهمه بإثم محاولة تهدئته:


- أخبرني: لمن تعمل أنت ؟!


فيفكر قليلا ثم يقول مبتسما بخفة:


- لنفسي .


ثم يستكمل بهدوء:


- ما المشكلة في أن تعمل لنفسك ؟! في أن تعيش لنفسك ؟! في أن تكون الحياة بأكملها لنفسك ؟!


يستقبل مصطفى إجابته بانهزام، يجلس بجانبه محطما، قد هدأت وتيرة حدته .. ثم يقول بشكل متقطع:


- لا أستطيع .. أنا لا أطيق الوحدة، أنا أخاف من الوحدة، أخاف من أكون نفسي فقط .


ثم يلتفت إليه هامسا بنظرة مرتعبة:


- هل تعلم لماذا أخاف من الموت ؟! .. لأنني أخاف أن أكون وحيدا هناك، في تلك الحفرة الضيقة، أثناء الحساب، أثناء البرزخ، أثناء البعث، وحيدا .. هل ترى ؟! إنني أخاف من الوحدة أكثر من خوفي من الموت، أحتاج إلى أن أعمل من أجل أحد، فأخبرني: مِن أجل من أعمل ؟!


يمر يوم كئيب على هذه الشاكلة، يزحف ثقيلا كالاحتضار .. ومع الصباح تتلاشى رواسب الأسئلة الغامضة، ويعود مصطفى ليتحدث عن القوارب .. كان مسعود يسمي هذا اليوم “ضريبة السعادة”، المقابل الذي تأخذه الحياة مقابل اندفاع صاحبه الصبياني اللامبالي .


الموضع الثاني حينما يدخنان سيجارة الحشيش ليلة كل خميس في سطح الشقة، فيبدو مسعود شخصا مختلفا، وإن كان اختلافا طفيفا، إلا أنه يجعله قابلا للحديث، منفتحا لأن يصف أشياء كثيرة، تتعلق بنفسه وماضيه وما يفكر فيه وما يتوقعه .. إلا أنه يظل حذرا، يتوجس الخوض في أشياء معينة، كي لا يخرج من غشاء الظل الذي يتكوّر فيه .






3


جلسا على فرشة في زاوية السطح الضيق، يضيء ضوء اللمبة الباهت بؤرةً تغطي جزء من جسديهما، ويفرض سكون الشارع انهمارا رقيقا للهدوء الليلي الحالم .. أشعل مصطفى سيجارة الحشيش الرخيص، وهو يقول محدقا في الكتاب الذي يمسكه مسعود:


- أخبرني، كيف لمثقف مثلك أن يعمل بناء ؟!


فرد وهو يضع الكتاب جانبا:


- كيف لمصمم بارع مثلك أن يهاجر إلى هذا المكان اللعين ؟!


شفط نفسا وأعطى السيجارة له وهو يقول:


- كف عن الاستخفاف بي، أنا لست غبيا .. هنالك فرق بين حالتي وحالتك .


نفث مسعود الدخان:


- ما هو الفرق ؟!


- أنت سعودي .


فضحك مسعود بقوة على غير عادته:


- هذه ميزة ؟!


- هي في حقيقتها وبال، أتفق معك، لكن نعم .. أنا مجبر للهجرة، ولكن أنت أساسا هنا، فما هي الحكاية ؟! لماذا تعمل بناء ؟!


أعاد مسعود السيجارة لمصطفى:


- هل تعلم ما هو المفهوم الفلسفي لكلمة لماذا ؟!


- إنّا لله وإنا إليه راجعون .


- المفهوم الفلسفي لكلمة لماذا تُلخصه مئات الآلاف من السنوات .. لماذا خلقنا ؟! ولماذا نموت ؟! ولماذا نحب ؟! ولماذا نكره ؟! ولماذا أعمل بناء ؟! ولماذا يعمل فلان حدادا ؟! .. لأجيب على سؤالك، يجب أن أكون مهيأ للإجابة عن كل هذه الأسئلة، لأن “اللماذا” في سؤالك عن “اللماذا” في الأسئلة الأخرى .


نفث الدخان بهدوء:


- للجحيم أنت ولماذاك ..


أخذ مسعود السيجارة وهو يقول:


- دعني أخبرك بشيء .. ما هو اللوح المحفوظ ؟!


- الذي كُتب فيه ما سيحدث لنا ؟!


- بالضبط، ما سيحدث لنا، وليس ما سنفعله، لأن كل ما نفعله هو في الحقيقة: يحدث لنا .


حدق مصطفى بوجوم في صاحبه ثم قال متضايقا:


- عن ماذا تتحدث بحق الجحيم ؟!


فرفع صوته باندفاع طفيف:


- أتحدث عن القدر، من هو ؟! ومن أنا ؟! متى يتوقف هو، ومتى أتوقف أنا ؟! أم نحن نعمل جميعا ؟!


استرجع مصطفى السيجارة باشمئزاز:


- حينما تريد أخيرا أن تتحدث، فإنك تتحدث بالهراء ..


أخذ مسعود يحدق في الفراغ بخمول هائل، وكأنه لم يسمع شيئا مما قاله مصطفى .. يتسلل دخان النشوة الهامدة في كامل جسده، فيشعر وكأنه سيطير .. ثم قال:


- في عزاء والدتي احتللت زاوية من المجلس، وانزويت بعيدا عن الأعين المترصدة .. كنت أشعر بكثير من الحزن، ولكنه حزن جاف .. لم أفهم يوما لماذا البكاء، وأظن أنني لا أفهم حتى هذه اللحظة، هو نقشٌ بالرمل على جدار الريح .. خرجت من المجلس، وأخذت أسير بخطوات متداخلة وسط الحوش .. اتجهت إلى الفناء الخلفي، لم أكن أخطط لشيء ما، بدى وكأنني أقاد إلى هناك دون وعي .. جلست على حافة الدكة أمام المزرعة الصغيرة التي تستفرد بالنصف الآخر من الفناء، يتسلل على سطحها الضوء الأصفر لشمس العصر الباهتة، ويستفرد السكون بأصوات حفيف الورق المستسلم للنسيم الخافت .. أخذت أحدق بوجوم في كل تلك النباتات والفواكه التي زرعتها والدتي، ثمر التين بجانب الزيتون والرمان تحت شجرة الفيفاي التي تستظل بظل النخلتين المتلاصقتين، رائحة الطين الرطب بعد مطر البارحة، يمتزج بعبق الورق الناضج في جذوع الشجر .. لو كان لوالدتي رائحة بعد الموت، فستكون حتما هذه الرائحة .. ظللت أحدق بوجوم، يزحف حدٌّ دقيق نحو عيني، يحتكّ بالغشاء، يحاول أن يكسر حاجز الماء، ولكن دون جدوى .. وفجأة دوّى صوت هائل من البيت الملاصق، دويُّ آلات موسيقية متناحرة، تشتبك كالموج المتلاطم دون رتم واضح، مجرد صخب مدوي .. التفتّ أتأمل النافذة المفتوحة التي يصدر منها الصوت، ثم عدت لأحدق في رسوم المزرعة بوجوم، منصتا لاجترار الهدير الذي يكتسح الصمت، مدركا أن الفاصل بين كل هذا الحزن الصامت، وكل ذلك الصخب اللامبالي: مجرد جدار لعين .


خيم السكون لحظة ثقيلة، أصوات السيارات البعيدة في الشوارع المجاورة يزحف كنذير شؤم .. قال مصطفى وهو ممسك بالسيجارة بجانب فمه، مخدرا في حمأة تفكيره:


- حينما توفيت والدتي انهرت تماما .. كنت أجلس في قاعة الجامعة كالمنوّم، يطرح الدكتور علي سؤالا فأحدق فيه لحظة، ثم فجأة: أنهار بالبكاء، دون أي مبرر، دون أي مقدمات .. بكاء أشبه بالنحيب .


مد السيجارة لمسعود فلم ينتبه له، لكزه بأصبعه فالتفت بخمول، تلقف السيجارة وشفط نفسا طويلا حتى شعر أن صدره يطفو في الدخان، وبدى وكأن صور السماء أمامه تبدو ضبابية، تختلط في بعضها .. نفث الدخان في خط مستقيم، ثم قال:


- يستحيل أن يكون القدر روائيا فاشلا بنهاية واحدة لكل قصصه: الموت.. ربما بيننا خالدون، أو من صعدوا للسماء مباشرة .. نهايات أخرى، لم نطلع عليها .


فالتفت نحوه مصطفى وقد بدأ يشعر بخمول الحشيشة:


- بدأ المفعول يا زميل .


فلوّح بسبابته معترضا:


- لا لا هذا ليس هراء .. لتحديد ماهية الموت، يجب أن تحدد ماهية الحياة .. ما هي الحياة ؟! هل هي وجود حقيقي ؟! ربما هذا كله وهم ؟! .. أمك لم تكن، أبوك لم يكن، أخوك وأختك وصديقك، جميعهم لم يكونوا .. خلقت منذ الأزل، وستمضي إلى الأزل، هذه الستون عاما: مجرد حلم في البرزخ .. الموت: هو أن تفيق من الحلم .


حدق مصطفى في صاحبه بحماس، ثم قال بتأثر بالغ:


- يييييييييه .. تخيل ؟!


صمت لحظة محدقا بذهول، ثم أكمل وقد التفت على مسعود بكامل جسده، وكأنه على وشك أن يخبره سرا خطيرا:


- أحيانا، وفجأة، أشعر وأنا جالس في مكان ما، أو أسير في طريق ما، أو أتحدث مع شخص ما: أنني أحلم .. أشعر وكأن ما يحدث غير حقيقي، أبدأ في التفكير: هل أنا موجود فعلا ؟! ما الذي يحدث ؟! أشعر وكأنني أتواجد في هذا المكان، ولكنني لست موجودا بالفعل .


أخذ مسعود السيجارة وهو يهز رأسه بعمق:


- ثمة شيء خاطئ في هذه الحياة، شيء غامض، شيء … لا أعلم ما هو .


شفط النفس الأخير من السيجارة، وقد ارتطم كلاهما بقاع النشوة الخاملة، حتى بدى كل طرف من الجسد منفصل عن الطرف الآخر .. اقتربت السماء، وتكالبت الريح، وانخفض معدل الجاذبية، لو حرك أحدهما ذراعه لطار محلقا في الهواء .. قال مسعود وقد رمى عـقِب السيجارة:


- هل ستذهب في إجازتك إلى مصر ؟!


فرد مصطفى بصوت ميّت:


- ما الفائدة ؟!






4


سافر مصطفى إلى مصر في إجازته الشهرية .


الصمت .. عدوّ أخرص، ثقيل كفاجعة الحلم المذبوح، يجثم بثقله، دون صخب، دون مبارزة، يسحق دون دماء أو أشلاء .. شاهده مسعود وهو يُـقتل على يد مصطفى، يوميا، ولكنه عدو لعين، لا يموت .


عاد ذلك الطنين ليتبوء في أذنيه، حينما يستحوذ الصمت على المدى، ويضرب طوقا لا منفذ فيه، فيئزّ في أذنك طنين مزعج كصافرة الإنذار، هي ردة فعل الجسد على الصمت: بأن يستحضر صوتا لا وجود له .. كان مسعود يهرب منه في السابق بأن يفتح التلفاز، أو الراديو، أو أن يجلس بجانب النافذة المفتوحة على احتمالات الصخب المتنوعة .. ولكنها لا تقتله، مجرد وهم لا يخفي حقيقة المشكلة: الصمت ينتظرك في الزاوية، ريثما تغلق كل شيء .


لقد تصالح معه في السابق، وإن كانت مصالحة المهزوم الخاضع .. ولكنه يعود الآن بوقع أشد، وكأنه ينتقم من محاولة وأده الفاشلة .


لم يعد يطيق الجلوس في الشقة، يعمل طوال النهار ويرتاد في الليل بسيارة مصطفى استراحات الشيش البعيدة خارج المدينة، يجلس وحيدا على دكة منزوية، يراقب الجماعات المتكتلة وينصت لهدير الأصوات الصاخبة، يجلس مع بعضهم فيتفرقون في نهاية السهرة ولا أحد يتذكره، كيف تتذكر شخصا لم ينطق بحرف طوال الجلسة ؟!


وحينما ينغمس الليل في آخره، يبدأ كابوس الصمت .. أصبح يفكر كثيرا في الرجل الذي قتله، يرى في منامه لمعان السيف الذي يهدد رقبته .. فكر في أن يُسلم نفسه، أن ينهي مسرحية حياته المشوّهة، ولكنه كان أجبن من القيام بذلك .. ولذا ظل يحارب الصمت بفشل، حتى عاد مصطفى بعد ثلاثة أسابيع فقط .


وقف أمامه بكآبة تلك الأيام التي يقع فيها فريسة شكوكه، وضع حقائبه عند الباب دون أن يسلم على صاحبه، ثم قال وهو يهز رأسه بخيبة أمل:


- لا أعلم إن كنت أريد العودة إلى هناك .


فرد مسعود بهدوء:


- لماذا ؟!


رمى بنفسه على الكنبة بجانبه، وأخذ يحدق أمامه بوجوم .. ثم قال:


- لقد فقدت حياتي هناك .. في كل مرة أعود فيها يجب أن أستعيدها، ولكن لمدة شهر فقط .. يجب أن تُجدد صداقاتك، أن تعيد بث الروح فيها، أن تعتاد على المكان، على الأجواء، على كل شيء لعين .. وفي اللحظة التي تستعيد فيها حياتك السابقة، ترحل عنها مرة أخرى .


ثم صمت بجمود كئيب، وبعد لحظة عاد ليكمل:


- ربما لو كان لي عائلة هناك لاختلف الوضع .. هل تصدق أنني سكنت الليلة الأولى في فندق ؟! .. هل تفهم ماذا يعني هذا ؟! في بلدي: أنا غريب، هنا: لدي شقة .. صدقني، لم أعد أفهم شيئا .. ما الذي أفعله هنا ؟! لمن أعمل ؟!


بعد دقيقة من الصمت المطبق، أخرج مسعود من جيبه سيجارة حشيش، رفعها بجمود خامل .. التفت مصطفى نحوه، ودون أن ينطق أحدهما بكلمة اتجها إلى السطح، ودخنا السيجارة بهدوء مميت .. أحدهما يحتفل باغتيال الصمت، والآخر يحاول اغتيال الصخب .


تعليقات